01‏/11‏/2010

الرضا


قال تعالى : {رضيّ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ}
هيا معًا نبحر في بحار الرضا، ونصطحب معنا نماذج من الراضين
حتى يكونوا لنا نبراسًا يضيء لنا الطريق .
هيا ضع يدك في يدي ولنبدأ على بركة الله،
وقبل أن تبدأ خذ نفسًا عميقًا، واستشعر أنَّ الله معك .. يراك ويسمعك،
واهتف من أعماق قلبك،وردِّد مع النبي الكريم هذه الزفرة المؤمنة الموقنة:
(رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً ) .

وتذكر أنَّ لك جائزةً من الله تعالى أخبرنا بها نبيه صلى الله عليه وسلم حين قال:
( من قَالَ حيَن يُمسي رضيتُ بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا كان حقًّا على الله أن يرضيه ) [رواه الترمذي بسندٍ حسن ] .

فعلى الإنسان أن يقنع بما قدَّره الله عزَّ وجلَّله،
فإن كان معافى في جسده من الأمراض،
ويعيش في أمانٍ دون خوف،
ويملك قوت يومه فلا يبيت جوعان،
وجب عليه -بهذه النعم الثلاث- أن يحمد الله حمد الراضين، وليتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزت له الدنيا) رواه الترمذي وقال حديثٌ حسنٌ .

أرح نفسك من الهم بعد التدبير :

فالمؤمن الحقيقي لا يفرح بدنيا تصيبه ولا يحزن على فواتها،
ولكنه يفرح بالطاعة وتحزنه المعصية.. وكما قيل:
"كل ما فاتك من الله سوى الله يسير، وكل حظ لك سوى الله حقير"..
{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممَّا يجمعون } ،
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن) رواه الترمذي بسندٍ صحيح..

وفى الحديث القدسي:
(إن اللّه يقول: يا ابن آدم، تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدَّ فقرك،وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسدَّ فقرك)
رواه الترمذي وقال حديث حسن .

وقد قال الله تعالى وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
{ لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى } ،
وقال: { وما من دابَّةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرَّها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ } .

فالغد أمره بيد الله وليس للإنسان من أمره شيء،
فإنه قد يأتي الغد وهذا الإنسان ليس من أهل الدنيا،
فالموت قريبٌ منَّا جميعًا، ويجب أن نؤمن إيمانًا راسخًا بأنَّ الله تبارك وتعالى لا يقضى إلا بالحق،
{ والله يقضي بالحقِّ والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيءٍ إنَّا لله هو السميع البصير } ، فما يقضيه الله للإنسان هو الخير .

إنَّ الله سبحانه وتعالى أعطى كلّ إنسانٍ ما يكفيه،
فقد قدَّر الله الأقوات من الأزل قبل خلق السماوات والأرض،
ولكن الإنسان دومًا يطلب المزيد وهو لا يعرف ما يفعل به المزيد،
فحين يختار الله الغنى أو الفقر لإنسان ما، فإنه يختار له ما يصلحه، ولكن الإنسان لا يعلم ذلك .

إنَّ الإيمان عبارةٌ عن التصديق بالغيبيَّات والرضا بالقضاء والقدر،
فنحن لم نر الله ومع ذلك نؤمن به، ونصدق بوجوده،
وطالما رضينا بالله ربا،فإنّ له الحكم وله الأمر وله التصريف وله التدبير،
فلا يمكن أن يصدر حكمه أو أمره أو قضاءه إلا عن حكمةٍ وإن خفيت عنَّا؛
ولذلك فإننا إذا آمنَّا بالله حقَّ الإيمان فلا شكَّ أنَّنا سنرضى بكل ما يأتينا من قبل الله تبارك وتعالى..
فيجب علينا أن نستسلم لقضاء الله سبحانه وتعالى وأن نرضى بحكمه، وأي مصيبةٍ تهون ما دامت فى غير ديننا.

وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله:
"الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، من لم يدخله في الدنيا لم يتذوقه في الآخرة " .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك،
ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد،
فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع،
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها،
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)
رواه البخاري ومسلم .

فماذا نحن فاعلون وقد قدَّر الله تعالى كل شيءٍ وكان له الأمر من قبل ومن بعد ؟
فماذا بقى للإنسان بعد هذه الأربعة ؟!

لم يبق إلا النية الصالحة والعمل الصالح، وذكر الله عز وجل، واللجوء إليه في كل وقتٍ وحين ..
{ إنّ َربَّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستَّة أيامٍ ثمَّ استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخراتٍ بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربُّ العالمين } .

نجومٌ على طريق الرضا

* عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي شارك مع النبي في الغزوات،
وإذ به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بشللٍ يقعده تمامًا عن الحركة،
ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم نقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته،
فدخل عليه بعض الصحابة.. فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم
وقال: أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ.. أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ .

* عروة بن الزبير، فقد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها،
وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟فدخلوا عليه،
فقال: "اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدًا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي " .

* السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قُتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده،
وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه..
استمع إلى ما رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،
وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها،
لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي،
قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛
فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال:
"خلِّ سبيلها"، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت .
إن حسن فهم العبد لطبيعة علاقته بربه تعالى يريح قلبه،
وإن معرفة العبد بأن الله الذي خلقه لا يريد به سوء أمر يطمئن فؤاده،
وإيمان العبد بأن الله جعل له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان
من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من الله عميم،
ميزها الله وحببها لأهل الخير فقال عنها لأهلها
فيما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أنت حيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا)
فذلك قوله عز وجل: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } رواه مسلم .

وهنا ينتهي مكان الدنيا بما فيها من تعبٍ ونصبٍ ومرضٍ و...،
لو أيقن العبد بذلك لكان في استقبال البلاء فرحا،
إذ هو يرفع درجته عند الله إذا صبر، أفلا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنَّ الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي له الرضا، ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن .
فدعنا نردد مع الشاعر قوله :
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوق التراب تراب

ونتضرَّع إلى الله ونقول :

إلهي؛ لا تغضب عليَّ فلست أقوى لغضبك،
ولا تسخط عليَّ فلست أقوم لسخطك،
فلقد أصبتُ من الذنوب ما قد عرفتَ،
وأسرفتُ على نفسي بما قد علمتَ،
فاجعلني عبدًا إما طائعًا فأكرمتَه،
وإمَّا عاصيًا فرحمته .. اللهم آمين .

والرضا هو أسمى مقاماً وأرفع رتبة من الصبر، إذ هو السلام الروحي الذي يصل بالعارف إلى حب كل شيء في الوجود يرضي الله تعالى، حتى أقدار الحياة ومصائبها، يراها خيراً ورحمة، ويتأملها بعين الرضا فضلاً وبركة.

كان بلال رضي الله عنه يعاني سكرات الموت وهو يقول: " وا فرحتاه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه"

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الراضي بقضاء الله
هو أغنى الناس لأنه أعظمهم سروراً واطمئناناً، وأبعدهم عن الهم والحزن والسخط والضجر،
إذ ليس الغنى بكثرة المال إنما هو بغنى القلب بالإيمان والرضا، قال عليه الصلاة والسلام:
(اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد

وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرضا سبب عظيم
من أسباب سعادة المؤمن الدنيوية والأخروية،
كما أن السخط سبب الشقاء في الدنيا والآخرة فقال:
(من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى له) أخرجه الترمذي في كتاب القدر

ولقد كانت نعمة الرضا من العوامل في تلك السكينة التي شملت قلوب العارفين،
ومن أقوى الأسباب في محق نوازع اليأس التي يوجدها التفكير في عدم الحصول على حظوظ الحياة وملذاتها ؛
مما يجلب لصاحبه القلق والحيرة والاضطراب.

ولقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يُعلّم أصحابه
ويغرس في قلوبهم الرضا بالله تعالى رباً،
وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً،
وكان يندبهم لتكرارها فيقول: (من قال إذا أصبح وأمسى: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، كان حقاً على الله أن يرضيه) رواه الترمذي في كتاب الدعوات
فكانوا يحرصون على تكرارها صباحاً ومساءً، يُعرِبون بذلك عما تُكنُّه قلوبهم من نعيم الرضا بالله والتسليم له.

وما أكثر من يكرر هذا القول بلسانه، وهو غير مطمئن القلب به،
ولا متذوق لمعانيه السامية، ولا متحقق بمقاصده العالية، خصوصاً حين تزدحم عليه المصائب،
وتداهمه الخطوب، وتتكاثف على قلبه ظلمات الهموم والأكدار،
أو عندما يدعى إلى حكم من أحكام الشرع يخالف هواه ويعارض مصالحه الخاصة.

لهذا نرى أن ترْدادَه باللسان فحسب لا يفيد صاحبه إذا لم ينبع من قلبه.
حيث إن من لوازم الرضا بالله تعالى رباً ؛ الرضا بكل أفعاله في شؤون خلقه ؛
من إعطاءٍ ومنع وخفض ورفع، وضر ونفع، ووصل وقطع.

ومن لوازم الرضا بالإِسلام ديناً أن يتمسك بأوامره ويبتعد عن نواهيه،
ويستسلم لأحكامه ولو كان في ذلك مخالفة لهوى نفسه، ومعارضة لمصالحه الخاصة.

ومن لوازم الرضا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً
أن يتخذ شخصيته مثلاً أعلى وأسوة حسنة، فيتبع هديه، ويقتفي أثره، ويتحلى بسنته،
ويجاهد هواه حتى يكون تبعاً لما جاء به، وحتى يكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين،
كما دعا إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" رواه البخاري

وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
لأنتَ يا رسول الله أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي فقال:
"لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك".
فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر" رواه البخاري

فمن تحلى بالرضا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبسيدنا محمد نبياً ورسولاً،
ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة اليقين، ونال السعادة الأبدية، قال عليه الصلاة والسلام:
"ذاق طعم الإيمان من رضي بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً" رواه مسلم

أما من حُرم لذة الإيمان ونعيم الرضا، فهو في قلق واضطراب، وتضجر وعذاب،
وخصوصاً حين يحل به بلاء، أو تنزل به مصيبة، فتسودُّ الحياة في عينيه،
وتظلم الدنيا في وجهه، وتضيق به الأرض على رحبها، ويأتيه الشيطان ليوسوس له،
أن لا خلاص من همومه وأحزانه إلا بالانتحار.
وكم نسمع عن حوادث الانتحار، تزداد نسبتها،
ويتفاقم خطرها وخصوصاً في البلاد الكافرة الملحدة،
وفي المجتمعات المارقة التي انحسر عنها ظل الإِسلام،
وخبا فيها نور الإِيمان، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:
{ومَنْ أعرضَ عن ذِكري فإنَّ لهُ معيشةً ضَنْكاً . ونحشُرُهُ يومَ القيامةِ أعمى} طه: 124

تصحيح الأفكار في موضوع الرضا

هناك شبهات، أثارها بعض الجهلة حول موضوع الرضا،
وما سببها إلا جهلهم وعدم تذوقهم لهذا المقام الرفيع، والإنسان عدو ما يجهل.

أولاً: أنكر جماعة الرضا من أصله فقالوا:
لا يُتصور الرضا بما يخالف الهوى،
وإنما يُتصور الصبر فقط،
فهل يعقل أن لا يحس الإِنسان بألم المصائب، ولا يشعر بوقع الخطوب ؟!

والجواب: إن الراضي قد يحس بالبلاء، ويتألم للمصيبة بحكم الطبع،
ولكنه يرضى بها بعقله وإيمانه،
لما يعتقد من عظم الأجر وجزالة الثواب على البلاء، فلا يعترض، ولا يتضجر،
ومثله في ذلك مثل المريض الذي يحس بألم حقنة الدواء،
ويشعر بمرارة العلاج، ولكنه يرضى بذلك لعلمه أنه سبب الشفاء،
حتى إنه ليفرح بمن يقدم له الدواء ولو كان مرَّ المذاق كريه الرائحة.

قال عمر رضي الله عنه: (ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربع نِعم: إذْ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثواب عليها)

ومن ناحية أخرى: إن الراضي قد يحس بألم المصيبة بحكم الطبع،
ولكنه يرضى بها حين يرجع إلى إيمانه بلطف الله تعالى وحكمته،
وأن وراء كل فعل من أفعاله تعالى حِكماً خفية. ولطائف دقيقة، كما قال تعالى:
(فعسى أنْ تكرَهوا شيئاً ويجعَلَ اللهُ فيه خيراً كثيراً)

وبذلك يضمحل حزنه، ويزول تعجبه،
ويعلم أن تعجبه كتعجب موسى عليه السلام من الخضر عليه السلام،
لما خرق سفينة الأيتام، وقتل الغلام، وأعاد بناء الجدار،
فلما كشف الخضر عن الحكمة التي اطلع عليها، زال تعجب موسى عليه السلام،
وكان تعجبه بناء على ما أُخفي عنه من تلك الحكم ؛ وكذلك أفعال الله تعالى.

ومن جهة ثالثة: إن المؤمن الذي عمرت محبة الله تعالى قلبه،
وأخذت عليه مجامع لبه لا يحس بوقع المصيبة، ولا يشعر بألمها، كما قيل:

. . . . . فما لجُرحٍ إذا أَرضاكم ألم ولا شك أن المحبة لا يحس بها إلا من ذاقها:

لا يعرف الوجد إلا من يكابد هولا الصبابة إلا من يعانيها ولذلك ينكرها من لم يصل إليها.

قال عامر بن قيس: (أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت)

ثانياً: تسرَّعَ قوم فقالوا: إن الرضا يورث في المؤمن قبولاً لأعمال الفاسقين،
واستحساناً لأوضاع العاصين، وهذا يؤدي إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والجواب: أن هذا الفهم خطأ ظاهر، وجهل بيّن، فهل يعقل أن يهدم المؤمن حكماً من أحكام ربه،
وركناً من دعائم دينه، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟!
مع العلم أن الله تعالى لا يرضى عن المؤمن إلا إذا أقام دينه، واتبع شريعته.
وهل يُتصور أن يرضى المؤمن بأفعال الكافر مع أن الله تعالى لا يرضى بها كما قال تعالى: {ولا يرضى لعبادِهِ الكفرَ}
والحقيقة أنه لا تعارض بين الرضا بالله تعالى وبين إنكار المنكَر،
لأن المؤمن يرضى بأفعال الله تعالى من حيث إنها صدرت من حكيم عليم،
وأنها بقضائه ومشيئته، ولا يرضى بأفعال العصاة من حيث إنها صفتهم وكسبهم،
ولأنها دلالة على أنهم ممقوتون من الله تعالى.

ثالثاً: ظن قوم خطأ أن من آثار الرضا بالله تعالى أن يترك الإنسان التضرع والدعاء،
ويهمل اتخاذ الأسباب لجلب الخير ودفع البلاء، ويبتعد عن استعمال الدواء عند حصول الداء.

والجواب: أن هذا فهم غير صحيح، إذ في الحقيقة أن من جملة الرضا بالله تعالى؛
أن يعمل المؤمن أعمالاً يتوصل بها إلى رضاء محبوبه سبحانه، وأن يترك كل ما يخالف أمره ويناقض رضاه.

ومما يوصل إلى رضاء الله تعالى استجابة أمره في قوله:
{ادعوني أستَجِبْ لكُم} [غافر: 60]. فالدعاء مخ العبادة،
وهو يورث في القلب صفاءً وخشوعاً ورقةً تجعله مستعداً لقبول الألطاف والأنوار.

ثم إن ترك الأسباب مخالف لأمر الله تعالى ومناقض لرضاه،
فالله تعالى أمر بالعمل فقال: {وقُلِ اعملُوا فَسَيَرى اللهُ عمَلَكُم ورسولُه والمؤمنون} [التوبة: 105].
ودعا إلى السعي في طلب الرزق فقال: {هوَ الذي جَعَلَ لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].

فليس من الرضا للعطشان أن لا يمد يده للماء؛
زاعماً أنه رضي بالعطش الذي هو من قضاء الله ؛
بل قضاء الله وحكمه وإرادته أن يُزال العطش بالماء

وحين أراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يمنع جيش المسلمين من دخول الشام حذراً من الطاعون،
قال له سيدنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: (أفراراً من قدر الله ؟!
فأجابه سيدنا عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نحن نفِرُّ من قدر الله إلى قدره)

فليس في الرضا بالقضاء ما يستلزم الخروج عن حدود الشرع،
ولكن الرضا بقضاء الله تعالى معناه ترك الاعتراض عليه تعالى ظاهراً وباطناً،
مع بذل الوسع للتوصل إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وذلك بفعل أوامره وترك نواهيه.
***************
وختاماً: فإن في سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم
وخلفائه وصحابته الكرام رضوان الله عليهم والتابعين والصالحين فيض من الحوادث
التي تدل على تحققهم بأعلى درجات الرضا، مما يضيق المجال عن سرد الكثير منها،
ضُرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف بالحجارة حتى أُدمي عقبه
فتوجه إلى الله تعالى مخاطباً: ومما قال: "إن لم تكن ساخطاً عليَّ فلا أُبالي".

وكان الصحابة الكرام يُعَذَّبُون في مكة ويقلب عليهم ألوان التنكيل والإيذاء
وهم يتلقون ذلك كله بقلوب راضية، ووجوه مبتسمة، وألسنة ذاكرة.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
(ما بقي لي سرور إلا مواقع القدر، قيل له: ما تشتهي ؟ قال: ما يقضي الله تعالى)
واعلم أن الله تعالى لا يرضى عن عبده إلا إذا رضي العبد عن ربه في جميع أحكامه وأفعاله،
وعندها يكون الرضا متبادلاً كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله: {رضيّ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ}

ورضاء الله تعالى عن العبد هو أسمى منزلة وأرفع رتبة وأعظم منحة
قال تعالى: {ومساكِنَ طيِّبَةً في جنَّاتٍ عدْنٍ ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكبَرُ} [التوبة: 72].
فرضوان رب الجنة أعلى من الجنة، بل هو غاية مطلب سكان الجنة،
كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
"إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم،
فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول:
أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب وأي شيءٍ أفضل من ذلك ؟ فيقول: أُحِلَّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً" رواه البخاري

فهل أنت راضي.............؟؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق